أبجديات نون النسوة
نصٌّ رمزي تتداخل فيه الحركات بالموج، ويهتزّ فيه السطر كما تهتزّ خشبةٌ ضائعة فوق بحرٍ لا يبوح بكل ما يخفيه.
لم تكن النون تدرك لماذا ترتجف السَّطْرة كلما مشت بجانبها، ولا لماذا تُشبه الحركاتُ المدّ والجزر، تُصعِدها ضمّة، وتُغرقها كسرة، ثم تتركها سكونًا يتيمًا كخشبةٍ يبصقها البحر على الرمل ثم يستردّها دون إذن.
كانت نونًا تمشي بخطوٍ موزون، تحمل في نهايتها خفّة العروض، وفي أولها صوتًا يشبه الصدى القديم لأمّهاتٍ كنّ ينادين أسماءهنّ في ليلٍ لا يسمعه إلا البحر.
كانت نونًا لا تعرف من اللغة إلا ما يلمسه القلب، ولا من النحو إلا ما يتركه النسيم في آخر الحكاية. تمشي بلا تشكيل، كأنها لا تريد للعين أن ترتاح، وكأنها تتعمد أن تُبقي القارئ واقفًا في منتصف موجة لا يعرف إن كانت ستبتعد… أم ستسحبه معها.
في أقصى الجملة، كان الجمع المذكر السالم يرفع نفسه بثقل الضمّ، كأنه صخرةٌ تشق طريقها في بحرٍ ضجر من صلابته. كانوا يلتفون حول النون لا لاحتضانها، بل لقياس مدى هشاشتها، ويضعون حولها علاماتٍ وإشارات، كأنهم يُعيدون ترتيب الريح حول شيء يريدون إغراقه.
كانوا يجمعون أنفسهم كقوّةٍ نحوية، ويظنون أن الضمّ حين يرتفع يشبه البحر حين ينتفخ قبل العاصفة. لكن ما لم يعرفوه هو أن البحر لا يهاب ارتفاع الماء… بل يهاب ما يخفيه الارتفاع.
وفي منتصف السطر، كانت حروف العلّة تتدلّى كالأسماك الميتة، تتمايل بخفةٍ لا تُطمئن، وتُحدِث فرقعةً صغيرة كلما لامست المعنى. لا تثبت. لا تستقر. تميل كما تميل السفن التي لا تريد رسوًّا، وتتلوّن كما يتلوّن القاع حين يبتلع الضوء.
كانت تأتي في صورة الناصح، وتهمس للنون أن لينها نعمة، وأن القسوة ليست طريقًا للحياة. لكن تحت الهمس، كانت تُعدّل الحركات كما يُعدّل البحّار حبلًا يريد قطعَه، وتصنع شقًّا غير مرئي في السفينة، شقًّا لا يُحدث صوتًا… لكنّه يُغرق ببطءٍ لذيذ.
أما المؤنث السالم، فكان يشبه موجًا خفيفًا، يقترب ليُربّت على كتف السفينة، ويبتعد ليدّعي أن الأمر مجرد مداعبة. كانت أَلِفُه الممدودة كأنها يدٌ تمتدّ لا للمساعدة، بل لتجسّ نبض اللغة قبل أن تُقرر ما إذا كانت ستنحاز للبحر… أم للغريق.
لم يكن السطر مستويًا. كان يميل كما يميل لوحٌ خشبيّ يتأرجح بين موجتين لا تتفقان على اتجاه.
كانت النون وحدها تحاول أن تبقى واقفة، تتعلق بظلّ الكسرة مرة، وتتدلّى من طرف الضمة مرة، وتسكن حين يطلب منها البحر ذلك، كما يسكن قلْب من أُرهق من كثرة التجديف.
لم تكن تعرف إن كانت تسير على نصّ… أم على سطح بحرٍ يكتب نفسه بنفسه.
وفي الليلة التي تفككت فيها الحركات وانتصبت الجملة دون دعم، سقط الذين ظنّوا أن القوة في التشكيل، وأن العلّة يمكن أن تختبئ في لينها، وأن الجمع حين يرفع نفسه يعلو فوق الأمواج.
لكن البحر لا يُخدع. واللغة لا تُخدع.
والنون — التي لم تعلُ ولم تنخفض إلا بقدر ما يحتاجه الوزن — بقيت واقفةً على الماء كأنها حرفٌ من طينٍ مأخوذٍ من قاعٍ لا يُغرق.
ومضت… لا تلتفت إلى من سقط، ولا إلى من حاول جرّها للعمق.
مضت كعلامةٍ لا تُقرأ، كحركةٍ تُرى ولا تُفسَّر، كحرفٍ يحمل سرّ النجاة في عالمٍ لا يُجيد إلا امتحان الطهارة والسقوط عند أول موجة.





