حين تحدّث الغاني: سيرةُ الشاي في الذاكرة والبهجة
قبل قرونٍ من الآن، كانت ورقةٌ خضراء تهبط في فنجانِ ماءٍ ساخنٍ بالصدفة…
هكذا، بدأت الحكاية.
تقول الروايات إنّ إمبراطورًا صينيًّا كان يجلس في حديقته حين سقطت ورقةُ شايٍ في إنائه،فتصاعد البخارُ برائحةٍ لم يعرفها من قبل، فأمر أن يُذاق المشروب، فإذا به طعمٌ يجمع بين دفءِ الأرض ونسمةِ السماء.
ومن تلك اللحظة، بدأ الشايُ رحلته الطويلة من الشرق إلى العالم.
عبَرَ البحارَ والقوافل، من جبالِ الصين إلى مدنِ الهند، ومنها إلى المرافئِ العربيّة التي احتضنته برائحةِ النعناع والهيل.
وفي كلِّ أرضٍ نزلها، تلوَّن بروحِها، فصار في إنجلترا تقليدًا يوميًّا، وفي المغرب طقسًا مهيبًا، وفي الخليج عنوانًا للكرم، ورفيقًا للضحك بعد التعب.
لم يكن الشاي مجرّد شراب، بل ذاكرةٌ تمشي على البخار، وحكايةُ دفءٍ تروي كيف تلتقي الأرواح على رشفاتٍ صغيرةٍ من الطمأنينة.
⸻
قال الغاني وهو يملأ المكان بنكهةٍ من نعناعٍ وبهجةٍ دفّاقة:
«أنا الشاي… رفيقُ الصباحات، وبهجةُ المجالس، وصوتُ البهاء حين يهمس في الكؤوس».
لطالما كانوا يلتفون حولي، تسبقني رائحتي قبل حضوري، يضحكون، يتناجون، ويتركون لي مهمةَ وصلِ القلوب بطمأنينةٍ لا تُشبه غيرها.
كنتُ شاهدًا على حكايا لا تنتهي، على ضحكاتٍ تُسكب في الأكواب أكثرَ من السُّكر، وعلى أبياتٍ تتراقص بين البخار والأنفاس.
قال أحد الشعراء وهو يحتسيني في ليلةٍ من ليالي الأنس:
“وشايٌ يلوِّن ليلَنا بأنينِهِ
كأنّهُ العشقُ في فمِ الربيعِ يُغنّي.”
ضحك بخاري، وقال النعناعُ الذي يسكنني:
«ما أرقَّ الشعرَ حين يُكتب على رشفاتِ الفرح!»
أنا الشاي… لا أُشربُ في العزلة.
أنا وليدُ الجمع، ومولودُ الضحك، وصاحبُ المزاجِ الهادئ.
لي موطئٌ في كل بيت، وصوتي يتردّد في الغلايات كما تتردّد الأناشيد في الفرح.
كم مجلسٍ شهدتُه في ليالي الشتاء، حين تتقارب الأرواح حولي، يتحدثون عن الحبّ والسياسة، عن المطر، وعن الذين غابوا ثم عادوا، وأنا أبتسم بين أيديهم كأنّي أقول:
«اشربوا… فالحياة قصيرة، واللحظة أطولُ مما تظنّون.»
قال أحدهم ذات سمرٍ وهو يملأ كوبه الثالث:
“إذا كان في القهوةِ حُزنُ الوداع،
ففي الشايِ وعدُ اللقاء.”
فأحببتُ بيته وردّدته في نفسي مرارًا، لأنني حقًّا أُشبه اللقاء؛ أجيءُ بعد طولِ تعبٍ لأقول: ما زال في العمرِ دفءٌ لم يُسكب بعد.
وفي زاويةٍ أخرى من المجلس، غنّى شابٌّ بصوتٍ مبحوحٍ:
“يا شايُ، يا طيّبَ المذاقِ إذا سرى عطرُ المودّةِ في مساءِ اللقاء.”
صفّقوا له، وضحكتُ أنا أيضًا.
فما أسعدَ المجالسَ التي يُروى فيها الشعر، وما أكرمَ اللحظاتِ التي يلتقي فيها الشايُ والقلوبُ على نغمةٍ واحدة.
أنا لستُ سمراءَ الحزن كالقهوة، بل غانٍ بلونِ البهجة، أُخفي في صدري ضوءَ النهار وشيئًا من ابتسامةِ الفجر.
حين يسكنون بعد تعبٍ طويل، أجيءُ أنا لأوقظ فيهم الحياة، لا لأذكّرهم بما مضى، بل لأغسل ما بقي من غبارِ الأمس.
كلُّ بخارٍ أصعدُ به، رسالةٌ صغيرةٌ للطمأنينة، وكلُّ رشفةٍ مني اعتذارٌ لطيفٌ عن قسوةِ الأيام.
أنا الشاي… حديثُ الودّ حين يطول، وأنينُ الغيابِ حين يُشفى.
أنا الحكايةُ التي تُروى دائمًا بفرحٍ، حتى لو بكى أحدهم في آخرِ الجلسة…
فدمعه، في حضوري، يصبح أهدأ.
وفي آخر المجلس، حين يهمّ الجميع بالرحيل، أبقى أنا آخرَ من يغادر.
أنظر إلى الأكواب الفارغة، فأبتسم وأقول:
«ها قد سكن السرورُ فيهم، ومضيتُ أنا كما جئت… رفيقًا لا يُنسى.»





